7/01/2011

إصلاح منظومة الصفقات العمومية بالمغرب : الواقع و الآفاق


يحتل ميدان الصفقات العمومية مكانة بارزة في اقتصاديات الدول. إذ يمثل في الغالب ما بين 15 و 17 في المائة من الناتج الداخلي الخام. و في المغرب تبلغ قيمة الصفقات العمومية أكثر من مائة مليار درهم
و تشكل الوسيلة القانونية التي تختار بها الدولة و الجماعات المحلية و المؤسسات العمومية الشركاء الاقتصاديين المدعوين لتنفيذ البرامج و المشاريع العمومية المختلفة. و هو ميدان من الأهمية بمكان بالنسبة للمواطن من جهة أنه مصدر أساسي لتمويل الصفقات عبر مختلف الضرائب التي يؤديها إلى الخزينة أو من جهة أنه المستفيد المباشر أو غير المباشر من الأشغال و الخدمات و التوريدات 
المترتبة عن إنجازها.
مساحة إعلانية : في حاجة إلى استشارة أو تكوين حول الصفقات العمومية، يمكنكم الإتصال ب "مركز الصفقات العمومية" على الهاتف 0666716600 أو على البريد الإلكتروني
و لا شك أن ميدان الصفقات العمومية في المغرب عرف عقودا من التعتيم و الجمود اللذان طالا مختلف جوانبه القانونية و الإقتصادية و المالية و القضائية و كذا الثقافية (التكوين و الإنتاج الفكري) و ظل هذا الميدان عصيا على الحكامة حتى ثم إخضاعه لمبادىء متعارف عليها دوليا كحرية الولوج إلى الصفقات العمومية و المساواة بين المتنافسين و الشفافية عند اختيار الشريك الإقتصادي نائل الصفقة و كذلك الإنفتاح على المنافسة الخارجية. و قد حرصت على تعميم و تطبيق هذه المبادئ مختلف المنظمات الدولية المتخصصة كمنظمة التجارة العالمية أو منظمة التعاون الإقتصادي أو منظمة الأمم المتحدة حتى، و تم ذلك عبر مختلف الأليات القانونية كالاتفاقيات الدولية و برامج التمويل و الشراكة.
فعلى ما يبدوا فإن الأسواق الخاصة بدأت تضيق بالمقاولات الغربية أو لم تعد تستجيب لنهم آلتها الإنتاجية. لذلك فبدأً من سنوات التسعينات  و ضعت الدول المتطورة ميدان الصفقات ضمن أجندة استراتيجياتها الاقتصادية في شقها المتعلق بالتجارة الخارجية فسعت إلى الضغط على الحكومات الوطنية أو استمالتها من أجل إطلاح أنظمت الصفقات و فتحها على المنافسة الدولية بما يتماشى مع المبادئ المذكورة أعلاه. و قد سعت هذه الدول إلى تحقيق إستراتيجياتها عن طريق الاتفاقية الدولية تارة (اتفاقية الصفقات العمومية لمنظمة التجارة العالمية) أو الاتفاقيات الثنائية تارة أخرى كالتي تربط المغرب مع  الدول المتقدمة (الشراكة و الشراكة المتقدمة مع الإتحاد الأوربي، منطقة التبادل الحر مع الولايات الأمريكية المتحدة ) أو التي تربطه مع الفاعلين الاقتصاديين و الماليين العالميين (البنك العالمي و منظمة التعاون الاقتصادي، حساب تحدي الألفية ) و قد سجل الاهتمام بالصفقات العمومية ارتفاعا ملحوظا على إثر الأزمة الاقتصادية الأخيرة سنة 2008 حيث وجد الاقتصاد العالمي في الاستثمارات العمومية ملاذا آمنا لتوقي آثار الأزمة و رافعة تسند النمو و ضمانة لاستمرار المقاولات و الحفاظ على الشغل.

و في المغرب، لم يشفع الانتقال الديمقراطي و حده، الذي أطلق في أواخر تسعينات القرن الماضي إلى اليوم، في التسريع من وثيرة إخراج ميدان حيوي كالصفقات العمومية من النفق المظلم الذي عاش فيه على الرغم من الإصلاحات الإيجابية التي سجلها إن على المستوى القانوني أو المؤسساتي. و قد شهد له بذلك كل من البنك الدولي و منظمة التعاون الاقتصادي في تحليلهما اتباعا لمرسوم 1998 المنسوخ و مرسوم 2007 الجاري به العمل حاليا. و لم تقتصر الإصلاحات على هذه المراسيم فقط بل طالت قوانين أخرى متعلقة بمراقبة نفقات الدولة و المراقبة المالية للدولة على المقاولات العمومية و هيئات أخرى. كما سجل الجانب المؤسسي إصلاحات من قبيل إدماج مديرية مراقبة الالتزام بالنفقات بالخزينة العامة للمملكة، و كذا إحداث الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة و مجلس المنافسة اللذان ما فتئا يعلنان افتقارهما للآلية القانونية الملائمة و للموارد الضرورية من أجل الاضطلاع بدور فعال. و لا تزال سلسلة الإصلاحات مستمرة كمراجعة قانون المفتشية العامة للمالية و مفتشيات الوزارات و هلم جر.
فعلى الرغم من هذا التطور، لا تزال بعض الجوانب المرتبطة بالصفقات العمومية محل تساؤل و نخص بالذكر: 

مسألة تطبيق القانون
يبقى التطبيق هو المحك الحقيقي الذي تقيم به مدى مصداقية كل الإصلاحات خصوصا مع نشر و تواتر تقارير رسمية عن الاختلال الذي يطال تفويت و تدبير الصفقات العمومية فضلا عن تقارير و مقالات الصحف المستقلة التي أصبحت تمارس مهامها في الرقابة على مضض و على مرمى حجر من القانون الجنائي، هذا في الوقت الذي استمرت غالبية الصحف الحزبية و الرسمية في تبني سياسة دس الرأس تحت الأرض؛ و كيف لهذه الجرائد الحزبية أن تضطلع بدورها الحقيقي في مراقبة الصفقات العمومية التي يقع تفويتها و تدبيرها تحت مسؤولية الزملاء و الرفقاء في الحزب المتربعون على رأس الوزارات و الجماعات المحلية و المؤسسات و المقاولات العمومية؟ و حتى المعارضة لم تكن لتتناول موضوع تدبير الصفقات العمومية و المال العام بشكل عام (سواء من داخل الأحزاب أو عبر الجرائد) لعلمها أنها ستلج مراكز المسؤولية يوما ما و "ستتناوب" على ميزانيات الدولة و مؤسساتها بما يشبه اتفاقا ضمنيا قائما على قاعدة المعاملة بالمثل. لذلك و إلى جانب الإشادة بمشاريع إصلاح نظام الصفقات سنوات 1998 و 2007، سجل الشركاء الدوليين ملاحظاتهم حول جوانب لا تقل أهمية عن مكامن القوة، من قبيل محاربة الرشوة و انعدام المحاسبة و العقاب. فلا يكفي أن تطور الدولة منظومة قانونية تستجيب للمعايير الدولية و تتلقى عن ذلك التهاني و الإشادات، ثم لا يجد المواطن أثرا إيجابيا لتلك القوانين في حياته اليومية. فتطبيق القانون من الأهمية بمكان، و كل إرادة حقيقية لتفعيل سمو القانون و الحرص على تطبيقه ستصطدم بالإرث التاريخي الذي تزخر به عقلية  و ممارسات بعض الأشخاص في الأوساط الرسمية و الشعبية، العامة و الخاصة. إلا أنه لا بد من السير في إرساء مبادىء و قواعد دولة الحق.
مسألة المساءلة و المحاسبة و العقاب.
 لا يختلف اثنان عن أن الغائب الأكبر عن تسيير الشأن العام في المغرب هو المساءلة و المحاسبة إلى الدرجة التي أصبح فيها ولوج مناصب المسؤولية طموح لطالبي الاغتناء السريع. لذلك فأي مشروع إصلاحي لا بد و أن ينطلق من ربط ممارسة السلطة و ولوج مناصب المسؤولية بالمسائلة و ضرورة تقديم الحساب. و تحقيق هذه المبادئ يتطلبه توضيح المسؤوليات، و تفعيل آليات الرقابة الداخلية للمؤسسات و الرقابة الخارجية المخولة لأجهزة بعينها، و استقلالية القضاء و نزاهته. و لا يفوتنا أن نؤكد على أهمية الرقابة الخارجية الممارسة من قبل المواطن و الصحافة و المقاولات.
و هنا لا بد من الإشارة إلى مسألة الجزاء أو التعزيز الإيجابي. فلا ينبغي في نظرنا أن ترمي المساءلة و المحاسبة إلى إنزال العقاب فقط بل من العدل و الإنصاف أن ترمي أيضا إلى التعزيز الإيجابي المادي و المعنوي. فبالقدر الذي يجب التأكيد على ضرورة إنزال العقاب على المفسدين يجب أيضا إجزال الشكر للمصلحين بالتناسب مع الجهود المبذولة في القيام بالمهام و الإبداع فيها.

مسألة منظومة الأجور و التكوين.
 إذ على الدولة أن تعمل على تحييد الأسباب الداعمة لقابلية الشخص على الإخلال أو ارتكاب المخالفات، و اعني هنا أولا، مراجعة منظومة الأجور و إقامتها على قواعد الاستحقاق و الشفافية و الإنصاف، و حتى التمييز الإيجابي مقبول في حق المسؤولين عن تفويت و تدبير الصفقات بما يسمح للجميع بسد حاجاته إلى السكن و العيش الكريم إلخ، ثانيا، التكوين و التكوين المستمر. فلا يعقل أن يظل ولوج الوظائف المتعلقة بتفويت و تدبير الصفقات مرتبط بعدد سنوات الدراسة فقط من خلال التقسيم الكلاسيكي لإطار أو عون أو ما شابه. إذ من المفروض أن ننظر أيضا إلى الكفاءات في مختلف الجوانب التي يحتاجها هذا الصنف من الوظائف سواء المتعلقة بالقانون أو الميزانية العامة أو قانون الأعمال أو التدبير و التواصل الشفوي و الكتابي، الخ، و هذا للأسف ما لا تمكن منه مؤسسات التعليم و التكوين حاليا التي تقوم بتخريج أفواج إن تخصصت في القانون مثلا فهي تجهل الجوانب الأخرى و العكس صحيح، و هذا الوضع أثر على فاعلية الوظائف المتعلقة بالصفقات. إذن فيجب توفير تكوينات مناسبة لحاجات هذه الوظائف كإعداد دبلوم للمشتري العمومي، مع الاهتمام ببرامج التكوين المستمر.

مسألة نشر المعلومات و تسهيل الولوج إليها
ففي ميدان الصفقات موضوع هذه الورقة لا نستطيع الحصول عن أية أرقام و إحصاءات رسمية دورية و محينة بشكل منتظم حسب معايير مختلفة : عدد الصفقات، موضوعاتها، مبالغها، نائلوها إلى غير ذلك من المعطيات الضرورية للباحث الأكاديمي و الفاعل الاقتصادي و كذلك للمواطن كرقيب خارجي على صرف الأموال العمومية. فجميع هذه الفئات في حاجة إلى معلومات و معطيات مفيدة في التوقيت المناسب. و لعل الخصاص في نشر و ولوج المعلومات من أهم مظاهر التعتيم الذي عاشه هذا الميدان. و نسجل هنا التأخير الذي عرفه إخراج  قاعدة المعلومات الخاصة بالصفقات التي كانت مبرمجة سنة 2007 كنواة لإنشاء المرصد الوطني للطلبيات العمومية.
مسألة حماية البيئة و تسهيل تشغيل الفئات الأقل حظا في التوظيف في القطاع الخاص.
إلى جانب الوظيفة الاقتصادية و السياسية التي تقوم بها الصفقات، و المتمثلة في التنمية الاقتصادية و تلبية حاجات المواطنين إلى الخدمات العمومية (صحة، تعليم، إنارة، شبكة طرق..)، يمكن للدولة أن تستعمل هذه الآلية من أجل النهوض بالتزاماتها البيئية و الاجتماعية. فإذا توفرت الإرادة الحكومية أو حتى الإرادة الخاصة بالإدارة أو الهيئة العمومية الواحدة، يمكن للجانب التعاقدي في الصفقات العمومية أن يمكن الدولة إلزام الشركاء الاقتصاديين بتقديم خدمات و أشغال و توريدات تحترم البيئة و هو ما يطلق عليه اسم المشتريات العمومية المستدامة أو الخضراء. كما يمكن من هنا أن تقوم الإدارات و الهيئات العمومية بتشجيع المقاولات المتعهدة  المساهمة في توظيف الفئات الأقل حظا في ولوج الوظائف كذوي الاحتياجات الخاصة، فضلا على التشديد في مراقبة مدى صحة الالتزامات الضريبية و الاجتماعية للمقاولات و مدى احترامها لقانون الشغل حتى تستطيع المنافسة على الصفقات. الحاصل أن هذا التوجه العصري القائم على الجوانب الوظائف الإجتماعية و البيئية للصفقات العمومية يجب أن يقوم على رؤية و سياسة محددة الأهداف و الوسائل. و صياغة دفاتر التحملات المكونة للصفقات العمومية يجب أن تتعقلن و تتجدد وفق هذه السياسة، كما يجب عليها أن تتسم بالمرونة الضرورية حتى تتأقلم و الحاجيات المستجدة للمواطن و التحديات التي تواجه الدولة.

استنتاجات.
إن أي إصلاح لا يأخذ هذه المسائل بعين الاعتبار سيولد ميتا. و بهذا التوجه فقط تتحول الصفقات العمومية من مجرد وظيفة عمومية حاليا إلى وظيفة إستراتيجية تمكن الدولة و السلطات العمومية من الأداء الفعال لأدوار ذات طابع اقتصادي و مالي و اجتماعي و بيئي، مقدمة بذلك القدوة و النموذج للقطاع الخاص من أجل السير على هذا الطريق النبيل.

قبل أن نختم،  نشير أنه إلى جانب المراجعات التي قام بها المغرب إلى حد  الآن فيما يخص الصفقات العمومية و الملاحظات المسجل عليها، تبقى أهم الإصلاحات التي ستطال هذا ميدان تلك التي من المنتظر أن تتمخض على الدستور الجديد المعروض على الإستفتاء الشعبي يوم فاتح يوليوز. فعلى المستوى النظري، قدم مشروع الدستور حزمة من الأجوبة على مختلف جوانب النقص التي ثم الإشارة إليها في هذا المقال. فلقد نصت فصوله على سمو القانون، و استقلال القضاء، و الربط بين ممارسة السلطة و المسائلة، و التوصية على التنمية المستدامة، و ولوج المعلومات، و تجريم تنازع المصالح، و استغلال التسريبات المخلة بالتنافس النزيه و كل أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية، وباستعمال الأموال الموجودة تحت تصرفها،  و كذلك تجريم استغلال مواقع النفوذ والامتياز، ووضعيات الاحتكار والهيمنة، وباقي الممارسات المخالفة لمبادئ المنافسة الحرة والمشروعة في العلاقات الاقتصادية، والزجر عن هذه الانحرافات و معاقبة مرتكبيها إلخ
و كلها تجديدات لم تعرفها الدساتير السابقة، و مقارنة مع الدستور الحالي، نسجل أنه ثم التنصيص صراحة في الوثيقة الجديدة على مصطلح الصفقات العمومية، فالفقرة الثانية من الفصل 36  تذكر صراحة : "على السلطات العمومية الوقاية، طبقا للقانون، من كل أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية، وباستعمال الأموال الموجودة تحت تصرفها، وبإبرام الصفقات العمومية وتدبيرها، والزجر عن هذه الانحرافات."

و الخلاصة التي يمكن أن نخرج بها تقول: إن الإصلاحات التي شهدها و سيشهدها ميدان الصفقات العمومية جعلتنا نجزم بأن هذه الأخيرة بدأت تخرج من النفق المظلم بما سيعالج، أكبر إكراه يواجه إرادة الإصلاح، و هو إكراه التطبيق خصوصا مع انبعاث الرقابة التي يمارسها المواطنون على الشأن العام، و التي بدأت بوادرها تتضح منذ بروز حركة 20 فبراير و التي ستتقوى لا محال ليس بالضرورة تحت يافطة 20 فبراير، بعد المصادقة على الدستور الجديد الذي يضمن حق إبداء الرأي و التعبير و التظاهر و المشاركة في تسيير الشأن العام.  و قبل ذلك مارست جريدة المساء المستقلة دورا رياديا في ممارسة الصحافة للرقابة على الشأن العام و صرف الأموال العمومية و إن أدت ثمن ذلك جنائيا هذه المرة في تعارض صارخ مع قانون الصحافة. كل ذلك (أي الرقابة الممارسة من قبل الصحافة و المواطنين) سيدفع في اتجاه تفعيل الرقابة الذاتية و الرقابة الحكومية و الرقابة البرلمانية و رقابة جمعيات المجتمع المدني (منظمة الشفافية و الهيئة الوطنية لحماية المال العام مثلا) 
و لعل دورنا الأساسي جميعا سيكون هو المساهمة في انبعاث هذه الرقابة الممارسة من قبل المواطنين و حتى من قبل الصحافة و الجمعيات و المقاولات.

هناك تعليقان (2):

  1. اتساءل عن مسالة مهمة وهية تتعلق بالنسبة للمقاولة التي احدتث الان والقانون يقول في فما يخص الملف التقني يطلب شهادة الاعتراف من طرف المؤسسات العمومية وهي لازالة حديثة العهد فما حكم الشرع في هدا

    ردحذف
  2. هناك صفحة بهذا الموقع تحمل اسم "خدمات" تمكنك من طرح الأسئلة مع إمكانية الحصول على الإجابة.

    ردحذف

نشر تعليق يلزم فقط صاحبه فيما يخص واجب احترام القانون وقواعد المحتوى الخاصة ب "بلوغر"