1/05/2012

حول تخليق الحياة العامة والحكامة الرشيدة

لم يكن الحديث عن مرجعيات تخليق الحياة العامة وليد اليوم بالمغرب، إذ خاض فيه اليمين واليسار والوسط، كل حسب مرجعيته الفكرية وقناعاته الثقافية، ليلتقوا حول المنطلقات المشتركة بين الأمم والمستمدة من القيم الإنسانية النبيلة التي ترجع، من جهة، إلى الكتب السماوية وإلى إرهاصات فلسفة الأخلاق الإغريقية وما تلاها من إسهامات للمفكرين المسلمين الذين كان لها بالغ الأثر على قيم عصر الأنوار بأوربا من جهة أخرى. وبما أن المناسبة شرط، فإن إعلان قيادات حزب العدالة والتنمية العزم على محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين، وإرساء حكامة رشيدة يقتضي منا واجب النصيحة التي لا خير فينا إن لم نقلها ولا طئل منها إن لم نستلهمها في تدبير الشأن العام، لنؤدي الأمانة الملقاة على كاهل كل منا، لعلنا نستحضر بعض الأوراش الإصلاحية التي طالما انتظرناها حتى تستطيع بلادنا أن تحقق إقلاعا اقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا حقيقيا يمكنها من الرقي إلى مصاف الأمم المتقدمة، وما ذلك علنا بعزيز.
 
ترشيد نفقات الدولة
من بين ما استفزني وأنا أتلقي أول الدروس في الميزانية العامة للدولة هو غياب منطق الترشيد في صرف الميزانيات القطاعية وخصوصا الأغلفة المالية المتبقية نهاية كل سنة والتي لم تتمكن بعض القطاعات العمومية من صرفها -أو تحويلها للسنة المالية المقبلة- تخصمها وزارة المالية من الميزانية القطاعية خلال السنة الموالية نتيجة عدم صرفها، الأمر الذي يضطر القطاعات المعنية إلى صرفها بشتى الطرق ضمانا لبرمجتها لاحقا حتى لو اقتضى الأمر تبذيرها عبر صفقات وهمية أو مبالغ فيها أو مؤجلة التنفيذ ... ألم يكن من المنطقي أن يتم تشجيع القطاع الذي يستطيع ترشيد نفقاته والاقتصاد في ماليته ومنحه المزيد من الاعتمادات المالية في السنة المالية الموالية ما دامت لديه القدرة على عقلنتها وصرفها وفقا لبرنامج عمله السنوي وأولويات ميزانيته عوض حرمانه منها ؟
هذا، ونجد أن بعض القطاعات الحيوية بالبلاد تفتقر لأبسط وسائل العمل (مثال الصحة والتعليم والأمن والبنيات التحتية...) لاسيما في أرجاء المغرب العميق، في حين تجد أن المال العام يبذر تبذيرا في مجالات لا تعد من أسبقياتنا التنموية، لاسيما في المجالات الكمالية والتي غالبا ما تعطى أكبر بكثير مما تستحقه بالنظر للإمكانات المحدودة للخزينة، وترصد لها الأغلفة المالية الضخمة في انفصام تام مع الواقع المعيش لغالبية الشعب المغربي وفي تناقض صارخ مع هواجسه اليومية وأولوياته الحقيقية. فلا عيب في الترفيه عن الناس لتسليتهم ولا في توفير الكماليات ومختلف السلع الفاخرة والمستوردة، لكن دون بذخ أو غلو أو استنزاف لمخزوننا من العملة الصعبة، لأن الظرفية الاقتصادية العالمية لم تعتد تستحمل الإسراف في النفقات العمومية مما حذا بجل البلدان الغنية إلى نهج سياسة التقشف.

غياب المحاسبة الصارمة تشجيع على استشراء الفساد في البلاد
إن عدم الضرب على أيدي ناهبي المال العام اليوم والتملص من تحديد المسؤولية وعدم إيقاع العقوبات الزاجرة بالمتورطين المتابعين قضائيا من طرف الهيآت الحكومية المحدثة بموجب الدستور الجديد وغيرها (المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة لوزارة المالية والهيأة المكلفة بمحاربة الرشوة) والمنظمات غير الحكومية المختصة واللجان البرلمانية المعنية، يعتبر إيذانا بتفاقم الوضع أكثر مما كان عليه وإشارة واضحة للمفسدين الذين لا يتورعون في الاستيلاء على المال العام للتمادي في اختلاسه وسرقته وتبذيره. إن الإسهام في هذا الورش الإصلاحي أضحى مسؤولية تاريخية للجميع وليس شأن الحكومة وحدها، لأنه على جميع القوى الوطنية بالمجتمع وعلى جميع المواطنين ذوي الضمائر الحية أن يمدوا يد العون للسلطات الحكوميين الجديدة بشجاعة لتحجيم وتطهير بؤر الفساد المنتشرة في عدة مجالات والتصدي لها عبر السبل القانونية، ضمانا لأمن واستقرار بلادنا، وحفاظا على السلم الاجتماعي، وتقليصا للهوة بين الإمكانات الحقيقية للدولة والمتطلبات المتزايدة والملحة للمواطنين، وإسهاما في توزيع أكثر عدلا لمقدرات البلاد.
فلو عجزنا، لا قدر الله، عن الوفاء بهذا الوعد تكن فتنة في البلاد وزيغ كبير عن الهدف المنشود من مراجعة الدستور لبناء دولة الحق والقانون وما قد يترتب عنه من يأس من التغيير وإحباط لدى جميع الفاعلين وعزوف عن الاهتمام بالسياسة وبالشأن العام عموما. فلنفترض أن الأمر في النهاية يقتضي حلا توافقيا يقضي بعدم إيقاع العقوبات السالبة للحرية في إطار العفو، فهذا ليس مدعاة لأن يتم إعفاء المتابعين من استرداد ما بذممهم للأمة، لأن المال مال الجميع بما فيهم الفقراء والأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة والأرامل والعجزة المعوزين ممن لا يستقيم أخلاقيا التنازل عن حقوقهم أو المساومة فيها مع أي كان ومهما علا شأنه، لأن استرجاعها من المرجح أن يساهم في الإصلاح والتنمية المنشودة وخلق فرص جديدة للشغل والاستثمار العمومي ويضمن تكافئ الفرص أمام الجميع.
 
وضع الشخص المناسب في المكان المناسب
اكتشف جهاز مخابرات الإتحاد السوفيتي السابق تورط أحد كبار رجالات الجيش الروسي في الخيانة العظمى، حيث كلفه عملاؤه الغربيون بأحد أخطر المهمات السرية المدمرة للقدرة العسكرية والمتمثلة بكل بساطة في ترقية أفراد الجيش الذين لا تتوفر فيهم الشروط اللازمة للقيادة من كفاءة وحنكة ونزاهة حتى يضعفوا شوكة الروس. لذا يمكن اعتبار إسناد الأمور إلى غير أهلها وتقليد مناصب المسؤولية للبعض مع العلم بجود أكفأ منهم يعد خيانة للبلاد والعباد، وإيذانا بقرب حلول الساعة كما جاء في الحديث النبوي. إن أكبر ثروة يعول عليها في بناء صرح الحضارات هي الموارد البشرية المؤهلة والقادرة على رقع التحديات وكسب رهان التنمية.
فمتى تم توظيف المرء في المكان المناسب وأحسن استغلاله إلا ودفع بعجلة التقدم في الاتجاه الصحيح، دون عناء التكيف مع التكليف المنوط به، في حين يؤدي عكس ذلك إلى هدر الوقت في التأقلم مع المهام الجديدة في وإلى التنافس المحموم بين القائد الأقل خبرة ومعاونيه الأكثر تمرسا وحنكة، الشيء الذي قد يِؤثر سلبا على مسلسل اتخاذ القرار بفعل عجزه أو تردده أو ارتجاله في بعض الأمور، مما ينعكس على وتيرة الإنتاج والمردودية، فضلا عن توتر أجواء العمل واحتقانها نتيجة الخلل في التواصل بين المستويات.

مراجعة بعض الممارسات الإدارية المشوبة
أعرب أحد الوزراء الاستقلاليين لأطره خلال أحد الاجتماعات عن امتعاضه من كيفية صرف ما يسمى «بالتعويضات الجزافية» التي تمنح للموظفين ببعض الوزارات على شكل تعويض على التنقل في مهام وهمية، معتبرا هذه الممارسة غير أخلاقية، فأعجبت بجرأته وقررت التحقق من الأمر لاسيما وأن أحد زملائي آنذاك كان الوحيد الذي لا يأخذها. لذا، استفتيت بعض العلماء عن رأيهم في إمكانية منح تلك التعويضات بعد استخلاصها إلى من تجب النفقة عليهم من المال العام فأكدوا لي أنه كان من باب أولى ألا تستخلص أصلا. ولرب سائل يقول : ألم يجد القيمون على وزارة المالية من بديل لهذه الصيغة المريبة لتبرير صرف هذه التعويضات بشكل جزافي ؟
يكمن الجواب عن هذا التساؤل في خطورة سن معاملات «إدارية» مبنية على صياغة إشهاد بالزور والغش، الأمر الذي قد يدفع بعض ضعاف النفوس إلى الإتيان بمثلها لتبرير الاختلاس عبر صفقات عمومية وهمية، ما دامت الصيغة هي نفسها والعيب الشكلي واحد. فمن تم وجب على الساهرين على تدبير الشأن العام إعطاء القدوة في نظافة اليد عبر تأسيس معاملات مالية وإدارية سليمة شكلا ومضمونا، لا تشوبها شائبة أو شبهة، لنعود الموظفين على سلوك إداري متحضر يربؤ بهم عن التسيب وعن التوزيع السيئ لثرواتنا.

القطيعة مع التدبير الإداري المزاجي والارتجالي
هناك ارتباط وثيق بين التسيير الإداري و الحكامة في كل بلدان العالم : فمن يمتلك القدرة على القيادة الإدارية باحترافية عالية غالبا ما يصل إلى أهدافه في الوقت المبرمج سلفا ووفق الاعتمادات المرصودة لإنجازها، وذلك بفض التحكم في بلورة المشاريع عبر التخطيط الإستراتيجي المحكم والرؤية الاستشرافية لأداء كل المتدخلين والتنسيق بينهم، مع الاستعداد لمجابهة كل المعيقات المحتملة والإكراهات غير المتوقعة. وبما أن التخطيط يتطلب التتبع الدقيق لما يتم إنجازه وفي جميع المراحل فإن المحاسبة تكون ميسرة على أساس التزامات كل الفاعلين. المهم هنا هو أن يتم اختيار أحد المناهج المتعارف عليها في مدارس التسيير الإداري والقيادة الإدارية.
لكن واقع الإدارة المغربية حافل بنماذج التدبير العشوائي لبعض المرافق العمومية حيث الممارسات التي لا تمت بصلة لا للقوانين والأعراف الإدارية ولا لعلوم التسيير الحديثة، إذ تطغي عليها المزاجية -وما يعتريها من ذاتية- والارتجال -لافتقاد المهارات القيادية والرؤية الواضحة للأولويات والأهداف المراد بلوغها- مع الاكتفاء بتنفيذ التعليمات الفوقية والتي لا تنبع بالضرورة من خصوصيات المرفق المراد إدارته، بل تجدها رهينة المصالح الضيقة. إن الإقلاع الذي نتمناه لبلادنا لا مكان فيه للهواة، بل يتطلب امتلاك كل المهارات القيادية في الإدارة التشاركية المرفق العام، كما تتطلب حدا أدنى من التجارب الميدانية إضافة إلى التحلي بالأمانة والنزاهة.
إن المتتبع للشأن العام المغربي عن كتب يعرف أن الإشكال المطروح اليوم للنقاش لا يمكن اختزاله في أزمة الحكامة فقط لأن الإدارة المغربية اليوم تائهة لغياب سياسات قطاعية متكاملة ومندمجة كما يصطلح عليها في معاجم العلوم السياسية ولا تسير إلا وفق منظور مجالي ضيق الأفق غالبا ما تتحكم فيه الإسترتيجيات الاستعجالية والبرامج المحدودة الأهداف والمرامي والإمكانات، ولا تصاغ بتنسيق مع القطاعات الأخرى ذات الصلة إلا نادرا. فمن تم، شتان ما بين المقاربة الشاملة والمندمجة للسياسات العمومية التي ينبغي إرساؤها بمختلف القطاعات والبرامج الحكومية المنفصلة والظرفية والتي تضطر الحكومة مرارا لمراجعة الأولويات القطاعية نفسها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نشر تعليق يلزم فقط صاحبه فيما يخص واجب احترام القانون وقواعد المحتوى الخاصة ب "بلوغر"