10/23/2012

التفاصيل الكاملة لأكثر صفقات الأدوية فسادا في تاريخ المغرب

تعود بداية القصة إلى صيف 2006. في عز قيظ هذا الصيف، بدأت وزارة الصحة تتحدث عن مرض معد وترافق وصفه له بجميع نعوت القبح والخطورة. المرض هو «الروتافيروس». في هذا التوقيت أيضا تم إطلاق ما سمي «نظام يقظة» ضد المرض في كل من الرباط ووجدة وطنجة وبني ملال. منذ ذلك الحين، والوزارة تنفق على لقاءات وندوات لمناقشة تفاصيل هذا المرض، الذي لم يسمع به كثير من المغاربة من قبل.. تزامنا مع هذه النقاشات و«الحملات التحسيسية»، كان التحضير يجري لأكثر الصفقات غموضا في تاريخ وزارة الصحة في المغرب.
تمثلت هذه الصفقة في استيراد كمية من لقاحات «روتافيروس» و«بنوموكوك». ويتجلى الوجه الغامض في هذه الصفقة في تفاصيل عملية تفويتها لشركة عالمية للأدوية وفي بنود العقد المثير للجدل الموقع مع هذه الشركة. كيف ذلك؟..
وفق تقرير أعدّته المفتشية العامة لوزارة الصحة، وبناء على تفاصيل حصلت عليها «المساء» من مصادر جد مطلعة، فإن هذه الصفقة كانت من أكثر أماكن الظل في عمل مسؤولين في الوزارة. تكمن التفاصيل المثيرة للصفقة في طريقة شراء كمية كبيرة من اللقاحات بطريقة مخالفة لِما هو متعارَف عليه، «تشتري الوزارة الأدوية واللقاحات تحت إشراف من المنظمة العالمية للصحة. وتتم عملية الشراء هذه وفق شروط تفضيلية خاصة بالدول النامية، التي يوجد ضمنها المغرب. تتجلى هذه الشروط التفضيلية في كون وزارة الصحة تشتري الأدوية واللقاحات عن طريق المنظمة العالمية للصحة، التي تفاوض شركات دولية لبيع الأدوية واللقاحات بأثمنة منخفضة، خاصة في الدول النامية»، يكشف مصدر مسؤول، قبل أن يستطرد: «المفاجأة ووجه الغموض هو أن المغرب، بدل المرور على منظمة الصحة للحصول على اللقاحات بثمن أقلّ، تقدَّمَ مباشرة، عبر وزارة الصحة، بطلب عروض موجّه لشركتين عالميتين، قبل أن ترسوّ الصفقة على إحدى هاتين الشركتين، والتي باعت المغرب لقاحي «روتافيروس» و«بنوموكوك» بثمن يضاعف أربع مرات ثمن بيع هذين اللقاحين لدولة نامية»..
البنود الخفية
هكذا، وبدون المرور عبر المنظمة العالمية للصحة، تم التوقيع على «صفقة -إطار» تقضي بأن يسدد المغرب، خلال ثلاث سنوات، مبلغ 450 مليون سنتيم كل سنة، غير أن الميزانية العامة لم تكن تسمح سوى بتسديد 300 مليون، ليتم اللجوء إلى تحويل مبلغ 150 مليون سنتيم، وهو المبلغ المخصص أصلا لشراء أدوية المستشفيات على الصعيد الوطني، من أجل التسديد السنوي لضمان تمويل الصفقة. والمثير أكثر هو أن الشركة العالمية التي حصلت على الصفقة هي ذاتها التي وردت، ضمن شركات أخرى، في تقرير لمجلس المنافسة يؤكد أنها تستحوذ على جزء مهمّ من صفقات الأدوية واللقاحات التي تبرمها وزارة الصحة.
«تم تمرير هذه الصفقة بشكل سري ودون أن يكتشف أحد تفاصيلها، كما لم يتمّ عقد اجتماع للجنة الخبراء المكلفة بالبت في عمليات استيراد الأدوية واللقاحات ولم تـُستشر في هذا الموضوع، رغم أن القانون يقضي بذلك»، يوضح مصدر مسؤول لـ«المساء»، قبل أن يتابع، كاشفا تفصيلا ظل حبيسَ دواليب وزارة الصحة: «أثار غموض هذه الصفقة وتجاوز الإجراءات القانونية الواجب اتخاذها في مثل هذه الصفقات انتباه المنظمة العالمية للصحة، والتي راسلت وزارة الصحة بشأن الموضوع وبعثت، في سنة 2010، خبيرا تونسيا تابعا لها إلى الوزارة، والذي عبّر عن تحفظ المنظمة على الصفقة بحكم أن عمليات استيراد الدول النامية للقاحات يتم وفق برامج تحددها المنظمة العالمية للصحة».

بعد الربيع
ظل مآل هذه الصفقة غامضا وسر اللجوء إلى شراء اللقاحات بثمن مضاعف دُفن ببئر عميق داخل تلك البناية العتيقة المحاذية للمشور السعيد، لكن فجأة، وبعد التوقيع على الاتفاقية، بدأ يظهر خصاص ماليّ جلي في ميزانية وزارة الصحة، ليظهر أن هناك خَطبا و«ثقـباً» تسرّبت منه أموال كثيرة. تزامن ذلك مع توقيف تجهيز المستشفيات بسبب صرف الميزانية المخصصة لذلك على هذه الصفقة المثيرة للانتباه. في هذه المرحلة، بدأ موظفون داخل وزارة الصحة يكتشفون تفاصيل هذه الصفقة المثيرة.
حل «الربيع العربي» وخرجت مظاهرات ترفع صور مسؤولين عن الصحة في البلاد وتتهم القائمين على القطاع بـ«الفساد».. جاءت انتخابات وتغيرت الحكومة وحلّ وزير جديد، من التقدم والاشتراكية هذه المرة، ليشرف على القطاع. الحسين الوردي، رجل من أهل الدار وعالم بأمور الصحة.. بعد وقت قصير من تعيين الوردي في منصبه، تم اكتشاف صفقة اللقاحات هاته.. وكان الاكتشاف بناء على تقرير أعدّته المفتشية العامة لوزارة الصحة بطلب من الوزير. استغرق إعداد التقرير شهرا، قبل أن يتوصل به الوزير، الذي قرر على الفور سحب الصلاحيات من الكاتب العام للوزارة، رحال المكاوي، وإعفاء رئيسة قسم التموين، وفق قرار جاء فيه أن الإعفاء استند على ما جاء في تقرير المفتشية العامة للوزارة، كما كشفت مصادر مسؤولة لـ«المساء». أحال الوردي ملف الصفقة المشبوهة هاته إلى  المجلس الأعلى للحسابات وعدّل من تفاصيل الشطر الثالث لعملية تسلم اللقاحات المذكورة لهذه السنة بشكل قلـّص من الثمن، فهل انتهى الموضوع؟..

سيناريو محتمل
أكيد أن القصة لم تنتهِ، فبعض تفاصيلها ظهرت خلال هذا التحقيق الذي أجرته «المساء». تتمثل التفاصيل في أن الصفقة -الإطار كانت تضمّ، في جانب من جوانبها، صرفَ مبلغ ماليّ كبير سنويا على ثلاثة مراحل، أولها تخزين اللقاحات، والذي لم يتم بالشكل الجيد، ثم مرحلتي المساعدة التقنية والتكوين عن بعد لاستعمال اللقاحات، ولكن هاتين المرحلتين لم تـُنجزا، وفق ما أفادت مصادر «المساء»، التي زادت قائلة: «طرح تحمُّلُ الوزارة، بسبب هذه الصفقة، مصاريفَ ضخمة على إجراءات لا يتم إنجازها إشكالا كبيرا بشأن تطبيق برنامج «راميد»، والسبب هو فراغ المستشفيات من الأدوية، نظرا إلى أن الميزانية المخصصة لذلك راحت أدراج رياح هذه الصفقة الملتبسة».


صفقات وهمية لشراء أنظمة معلوماتية مزورة تكلف الملايين

من بين أكثر الصفقات غموضا التي أجراها مسؤولون بوزارة الصحة ما يرتبط باقتناء المُعدّات والتعاقد مع شركات من أجل تطوير الأنظمة المعلوماتية. انتـهى تحقيق «المساء» إلى الحصول على عدد كبير من الوثائق المتعلقة بصفقات عدة مرتبطة بالأنظمة المعلوماتية تحوم حولها شبهات فساد. صُرفت في بعض هذه الصفقات ميزانيات كبيرة ولم تـُنجَز، و أخرى  لا تتم بالشكل الجيد، بينما تـُجرى صفقات أخرى بشكل سرّي وفي إطار استغلال بين للنفوذ وللعلاقات العائلية والحزبية.
بدأ الأمر، حسب مصادر «المساء»، بقرار اتـّخِذ على مستوى الكتابة العامة للوزارة، يقضي بتجميع كل صفقات الأنظمة المعلوماتية على المستوى الوزاري المركزي، حيث تتكلف الإدارة المركزية بشراء المعدّات والأنظمة المعلوماتية للإدارات والمندوبيات التابعة لها، «فتح هذا الأمر الباب أمام تركيز مسؤولين في الوزارة على التصرف في الميزانية المخصصة للأنظمة المعلوماتية داخل الوزارة، حيث أنـّهم من يقتنون ما تحتاجه جميع مصالح الوزارة على الصعيد الوطني من مُعدّات وتجهيزات وأنظمة، وهو ما يفتح الباب أمام التبذير، بحكم عدم المعرفة الدقيقة بحاجيات جل المصالح، وهو ما لم يكن معمولا به من قبل، إذ كانت كل مصلحة تحدد حاجياتها التي تريدها. هكذا أضحى اقتناء تجهيزات وأنظمة بكلفة باهظة وعدم استعمالها أمرا عاديا في الوزارة»، يكشف مصدر مسؤول.
صفقات غامضة
إلى جانب التبذير الذي رافق عملية تركيز التحكم في التموين المعلوماتي في الوزارة، اكتـُشف وقوع ما يشتبه في أنها تلاعبات في صفقات متعلقة بالأنظمة المعلوماتية، وفق مصادر مسؤولة وأخرى نقابية. وتتضح هذه التلاعبات من خلال وثائق تتوفر عليها «المساء»، خاصة بعدة صفقات متعلقة بالعتاد المعلوماتي.
تحمل الصفقة الأولى رقم 2005/5، وتخصّ مشروعا سمي «شبكة الإعلام المشتركة للصحة». تتعلق الورقة التقنية لهذا المشروع، والمكونة من أزيد من 30 صفحة -تتوفر «المساء» على نسخة منها- كما هو وارد في الصفحة الأولى من ملف الصفقة، بـ«تطوير حلّ مندمج متضمن لبوابة إلكترونية جامعة تتعلق بشبكة الإعلام المشتركة للصحة وبوابة جنيسة». بمعنى آخر، المشروع عبارة عن رابط إلكتروني يمْكِن ولوجه من طرف موظفي وزارة الصحة وعموم الناس على السواء، بغرض الاطـّلاع على قاعدة بيانات ومعلومات صحية، وتوازي هذه الشبكة بوابة جنيسة، أي يمكن لكل مصالح الوزارة أن تعتمد عليها مرجعيا دون مساس بالمِلكيّـة الفكرية.
انطلق التحضير للمشروع منذ دجنبر 2005، وتم التأشير عليه بتوقيع من الوزير المنتدب لدى الوزير الأول المكلف بالشؤون الاقتصادية والعامة بتاريخ 8 فبراير 2008. سببُ هذا التأخر توقفُ المشروع في البداية، رغم صرف 78 ألفَ درهم لإعداد تقارير أولية حول المشروع و136 ألفا و500 درهم تحت بند «ملف تصوري للمشروع»، ثم مبلغ 55 ألفا و250 درهما لإنجاز مخطـَّط بيانيّ للمشروع، واستمر هذا التوقف إلى حين تغيير الحكومة وبداية اشتغال فريق جديد في الوزارة..
 ورغم البساطة التي يظهر عليها المشروع، فإنه تطلب ميزانية قدْرها مليون و650 ألفا و168 درهما، أي أزيد من مليار ونصف مليار سنتيم. كما أن المسطرة المتـّبَعة في الصفقات العمومية تفترض إجراء طلب عروض يسفر عن اختيار الشركة التي ستتكلف بإنجاز المشروع، وعندما يتم تحديد هذه الشركة يتم التعاقد معها على أساس تسديد 80 في المائة من المبلغ الإجماليّ للصفقة، في حين تبقى نسبة 20 في المائة غير مُسدَّدة كضمان. لم يحدث هذا الأمر، كما تكشف الوثائق التي تتوفر عليها «المساء»، والتي تثبت، أيضا، أن المبلغ سُدِّد كله  للشركة المستفيدة من الصفقة، رغم أنها لم تكمل إنجاز المشروع، خاصة خلال المرحلة  الرابعة منه، والتي اتـُّفِق خلالها على تطوير «الحل المعلوماتي» الذي يضمّ إنشاء بوابة إلكترونية جامعة وبوابة إلكترونية جنيسة، وإحداث وحدات للتكوين وتنظيم المؤتمرات عن بعد. كلفت المرحلة الرابعة 567 ألف درهم من ميزانية المشروع، وبتاريخ 14 دجنبر 2009، كما هو مُضمَّن في محضرِ تسلمٍ مؤقت للأشغال، موقـّع من طرف رئيسة قسم المعلوميات والمناهج في وزارة الصحة،  تتوفر «المساء» على نسخة منه، أشرت المسؤولة المشار إليها على تسلم أشغال هذا الشطر، والمتجلية في مجموع ما كان يتطلبه «الحل المعلوماتي»، وهو أمر لم يحصل..
تكرر الأمر في المرحلة الخامسة والأخيرة من المشروع، والتي كلفت 538 ألفا و390 درهما، والتي كان مقررا خلالها إعداد تقرير تقنيّ تام ومفصل ونهائيّ حول المشروع لتأكيد الانتهاء منه، وهو ما لم يحدث، على اعتبار أن المشروع لم يُنجَز على أرض الواقع، في الوقت الذي وقعت رئيسة قسم المعلوميات والمناهج، بتاريخ 3 غشت 2009، على انتهاء أشغال الشطر الخامس من المشروع، وفق محضر حصلت «المساء» على نسخة منه.
أعقب محضرَ التسلم هذا توقيعُ رئيس قسم القوانين وشؤون الموظفين بتاريخ 4 غشت 2010، أي يوما واحدا على توقيع محضر تسلم أشغال الشطر الخامس من المشروع، حسب وثيقة عبارة عن شهادة تتوفر «المساء» على نسخة منها، يقول فيها إن «الأشغال التي أنجزتـْها شركة (...) تم إنجازها كما كان متفقا عليه في بنود الصفقة».
ليس لهذه البوابة الإلكترونية الصحية وجود على أرض الواقع، فما معنى ذلك؟ وأين ذهبت ميزانية مليار ونصف مليار سنتيم المخصصة له؟ أسئلة ظلت معلقة وزادت من غموضها تفاصيلُ صفقات أخرى حصلت «المساء» على وثائقها.

القرصنة المكلفة
قبل متم سنة 2009، أشرّت مديرية الموارد البشرية في وزارة الصحة على صفقة تحمل اسم 01/2009/DRH. تتعلق هذه الصفقة بخلق نظام معلوماتي من أجل تدبير الموارد البشرية في وزارة الصحة والامتحانات المهنية. وفق وثيقة تتوفر عليها «المساء» يظهر أنّ القيمة الإجمالية للصفقة هي 3 ملايين و288 مليون درهم، أي ما يفوق 328 مليون سنتيم، على مرحلتين، مرحلة أولى خاصة بتحديد المهمة والدراسة الخاصة بها، والتي كلفت مبلغ 20 مليون سنتيم، ثم المرحلة الثانية، التي سيتم خلالها تركيب النظام المعلوماتي والرخص الخاصة به، وهي مرحلة رُصِد لها مبلغ 254 مليون سنتيم من المبلغ الإجماليّ للصفقة، والذي يضمّ 54 مليونا و8 آلاف درهم كضريبة على القيمة المضافة. وفازت بالصفقة شركة يوجد مقرها في الدار البيضاء.
بعد مرور قرابة ستة أشهر، وتحديدا بتاريخ 28 ماي 2010، وقـّع مدير الموارد البشرية في وزارة الصحة شهادة قال فيها إن الشركة التي فازت بالصفقة أنجزت المشروع في مرحلتيه، بدون تسجيل ملاحظات.
إلى هنا يبدو كل شيء عاديا، بغضّ النظر عن كون البرنامج المعلوماتي قد كلف 328 مليون سنتيم، والذي من المفترَض أن يكون جزء كبير من ميزانيته صُرفَ في شراء رخصة استعمال البرنامج من الشركة المالكة للحقوق الفكرية للبرنامج المعلوماتي المستخدَم. لكنْ، فجأة، ظهرت وثيقة أربكت الحسابات وأتبعت كلمة القضية بحرف «إنّ».. هذه الوثيقة، التي تتوفر عليها «المساء»، محررة غي الدار البيضاء وموقعة بتاريخ 10 يناير 2011 ومرسلة، عبر فاكس، إلى قسم الموارد البشرية في وزارة الصحة، وفيها تقول شركة يوجد مقرها في الدار البيضاء، وهي المخولة ببيع رخصة استعمال البرنامج المعلوماتي المذكور، إنه تم تركيب البرنامج بحاسوبين في الوزارة دون الحصول على الرخص المطلوبة. بمعنى آخر، فإن الشركة التي أبرمت معها وزارة الصحة الصفقة لم تحترم شروط العقد وباعت الوزارة برنامجا دون أن تسدد مقابل رخصة استغلاله للشركة المالكة للرخصة، والمنتدَبة لهذا الغرض من طرف الشركة العالمية.
كلـّفَ برنامج معلوماتيّ مقرصَن، إذن، وزارة الصحة، ما يفوق 328 مليون سنتيم. فهل تم فتح تحقيق في الملف؟ لم يحدث شيء مهـمّ باستثناء تعطيل العمل بهذا البرنامج المعلوماتيّ المكلف.
أجر «الخبير»
ملفات الصفقات المرتبطة بالأنظمة المعلوماتية كثيرة. بينها ملف أحد أطرافه شركة يوجد مقرها بالدار البيضاء فازت مرارا بصفقات تعلن عنها الوزارة، والسبب، حسب مصادر مسؤولة، هو وجود روابط بين مالكي هذه الشركة ومسؤولين بوزارة الصحة.
من بين الصفقات التي تشير أصابع الاتهام إلى أنها «ملتبسة» صفقة موقعة في سنة 2009، وتتعلق بالتتبع التقنيّ لمشاكل في النظام المعلوماتي المركزي في الوزارة. تتجلى الصفقة في تكليف الشركة التي ظفرت بها خبيرا معلوماتيا كي يزور مرة كل أسبوع مقرَّ قسم المعلوميات في وزارة الصحة، بمجموع أيام عمل يصل إلى 50 يوما في السنة، وعلى مدى ثلاث سنوات، أي 150 يومَ عمل.
سددت الوزارة مقابل هذه الأيام، التي يعادل مجموعها 5 أشهر، مبلغ 36 مليون سنتيم سنويا من ماليتها العامة، أي بمجموع 108 ملايين سنتيم خلال ثلاث سنوات، بمعنى آخر إنّ كل يوم عمل لهذا الخبير الذي سيزور الوزارة سيكلف 7200 درهم..
المثير في هذه الصفقة ليس أن هناك علاقات معينة بين مسؤولي الشركة والوزارة وليس كون المهندس المعلوماتي سيكلف 7200 درهم في اليوم، رغم أن في الوزارة عشرات المهندسين المعلوماتيين الذين يتقاضون أجورا شهرية محترَمة، لكن المثير أكثر هو أنّ الشركة الحاصلة على الصفقة لم ترسل قط مهندسا معلوماتيا إلى وزارة الصحة ولم تطأ قدم الأخير، إلى اليوم، مقر الوزارة في الرباط.. هذا ما تؤكده رسائل بعثها موظفون في القسم المعلوماتي للوزارة إلى رئيسة القسم، مشتكين من تعطل النظام المعلوماتي ومن الغياب التام للخبير المنتدَب لإصلاحه. في المقابل، ظلت رئيسة قسم المعلوميات والمناهج توقع محاضر تشهد على أن الشركة الحاصلة على الصفقة تؤدّي عملها. وتـُمضَـى هذه المحاضر، التي تتوفر «المساء» على نسخ منها، من طرف ثلاثة تقنيين دائما.
في هذا الوقت حصلت الشركة ذاتها على صفقة أخرى بقيمة 600 مليون لتزويد الوزارة، إلى جانب مصالح الصحة في ثلاث جهات من المغرب، بمعدّات وتجهيزات معلوماتية، وفي هذا الوقت، أيضا، حصلت شركة معلوماتية أخرى -يشْرف عليها قريب لمسؤول في وزارة الصحة- على صفقة تتعلق بتركيب نظام معلوماتي دفاعي «Firewall». وكلف هذا النظامُ الوزارة 350 مليونَ سنتيم، إلا أنه غير فعّـال بشهادة تقنيين في الوزارة.
رغم هذه المصاريف كلها، ظل النظام المعلوماتي يعرف خللا، حيث كشفت مصادر مسؤولة لـ«المساء» أنّ هناك تجهيزات عبارة عن حواسيب وطابعات موضوعة في مخزن منذ مدة طويلة، إلى درجة أن مدة ضمانها انتهت وتعطـّل عدد كبير منها وأصبحت أخرى متجاوَزة تقنيّـاً، في الوقت الذي لم تـُستعمَل قـَط.

أرقام صادمة تكشف حقيقة «الفساد» في النظام الصحي

هكذا يبدو وجه القطاع الصحي «بشعاً».. وتؤكد بشاعة هذا الوجه انطباعات وشهادات المواطنين المغاربة بشأن قطاع يعتبر من أكثر المجالات فسادا في المغرب.
في هذا الجزء من التحقيق نكمل ابراز الصورة السلبية ونوضح حقيقة ارتباط إمبراطورية الصحة في المغرب بالفساد، من مسؤوليها الكبار إلى الموظفين الصغار.
كانت منظمة «ترانسبارانسي المغرب» قد أعدّت استطلاعا للرأي حول الفساد والرشوة في عدة قطاعات عمومية في المغرب. بين هذه القطاعات وزارة الصحة. كان المستجوَبون في استطلاع الرأي هذا هم أرباب الأسر، باعتبارهم هم الذين يدبّرون علاقات أسرهم في المستشفيات والمراكز والمرافق الصحية.
سطوة الفساد
أكد الاستطلاع أن المرافق الصحية هي أولى الإدارات العمومية التي يزورها المغاربة سنويا، تليها المصالح العمومية الخاصة بالماء والكهرباء. كانت نتائج استطلاع الرأي هذه صدمة للغاية، فنسبة 88 في المائة من المستجوبين أوضحوا أنهم يعتقدون أن هناك مشكلا كبيرا في النظام الصحي في المغرب. تصل النسبة إلى 97 في المائة في المناطق الشمالية.
80 في المائة من المستجوبين مقتنعون بأن «الأطر الصحية في المغرب فاسدة وتتعامل بالرشوة».. والأكثر إثارة للانتباه هو أن الناس يصنفون الأطر الصحية في الرتبة الثالثة بعد شرطيي المرور و«المقدمين» و«الشيوخ» من حيث الفساد والارتشاء.
تنحو الأرقام نحوا أكثر قتامة وترسم صورة قاتمة عن الوضع الصحي في المغرب، فقد أظهر استطلاع الرأي أن 40 في المائة من المستجوَبين أكدوا أنهم سلـّموا، بأيديهم أو بأيدي أحد أقاربهم، رشوة لموظف صحي لتسهيل مأموريتهم، ويوجد 50 في المائة من هؤلاء في المدن وينتمي 71 في المائة منهم إلى الشباب، وأكبر المناطق التي تشهد تناميا للفساد في أوساط الأطر الصحية هي الدار البيضاء.
لماذا تعطى هذه الرشاوى؟ تبرز نتائج استطلاع الرأي أن 56 في المائة من الرشاوى تقدَّم لأطر صحية من أجل تسهيل الولوج إلى المستشفيات و50 في المائة من أجل الحصول على خدمات خاصة. يظــهر، أيضا، أن المغاربة، بنسبة 85 في المائة، يعطون رشاوى للأطر الصحية فقط من أجل دخول المستشفى أو الاستــــفادة من خدمات هي أصلا مكفولة لهم قانونيا ومجانا.
حسب استطلاع الرأي المذكور، فإن 61 في المائة من المستجوَبين يقدّمون 50 درهما رشوة لإطار صحي، بينما يقدر المعدل بنحو 140 درهما، بمعنى أنه يمكن لقيمة الرشوة أن تتجاوز هذا المبلغ بكثير.
عملة الرشوة
يكمل تقرير آخر حول الفساد في وزارة الصحة، تتوفر «المساء» على نسخة منه، الصورة البشعة للنظام الصحي في المغرب، يتعلق الأمر بدراسة رسمية حول ظاهرة الرشوة في القطاع الصحي، أنجزتها الهيأة المركزية للوقاية من الرشوة، ونـُشرت في يونيو 2011.
يرصد هذا التقرير الرسميّ مظاهر فساد ورشوة في القطاع الصحي، موزَّعة على عدة أشكال، بينها «التدويرة» والمحسوبية والزبونية و«الهدية» أو الابتزاز أو الرشوة المقدمة مقابل خدمات غيرِ مرخص بها.
«التدويرة» هي أكثر أشكال الرشوة انتشارا في الوسط الصحي، حسب هذا التقرير، وتقل قيمتها عن 100 درهم بنسبة 75 في المائة، كما أن إتاوات 10 و20 إلى 50 درهما جارية بشكل كبير، خاصة داخل المستشفيات العمومية، في حين يؤدي 14 في المائة من الراشين في المستشفيات، حسب التقرير ذاته، رشوة تتراوح ما بين 100 و200 درهم.
يكشف هذا التقرير الرسمي أن ثلاثة أشخاص من بين عشرة يقدّمون رشوة للأطر الصحية للحصول على خدمات. تزكي خلاصات هذا التقرير استطلاع الرأي سالف الذكر، وتبيّن هذه الخلاصات أن نسبة كبيرة من حالات الرشوة تتركز في المدن الكبرى. الدار البيضاء في المقدمة. ففي هذه المدينة تؤدي نسب متفاوتة من الذين تم استطلاع آرائهم رشوة من أجل ولوج المرافق الصحية أو من أجل الحصول على معلومات أو بغرض توجيههم أو للحصول على شواهد طبية أو قبول ملفاتهم أو من أجل الحصول على أدوية.
تزداد الحقيقة المظلمة سوادا مع تقدم نتائج البحث، الذي أكد، أيضا، أن 45 في المائة من الأشخاص الذين يستفيدون من تغطية صحية يؤدون، رغم ذلك، رشاوى للاستفادة من خدمات صحية.
وتختلف طريقة فساد الأطر الصحية وكيفية حصولهم على رشاوى وتتنوع، فنسبة 30 في المائة من المرتشين منهم يحصلون على الرشاوى بعد طلبهم لها بكيفية غير مباشرة ويحصل عليها 25 في المائة منهم بالمطالبة بها بشكل مباشر، في حين يحصل 23 في المائة من الأطر الصحية المرتشية على إتاوات يُقدّمها الناس طواعية. لكنْ من هم موظفو الصحة المرتشون بدرجة أكبر؟
تكشف نتائج التقرير أن 63 في المائة من الأطر الصحية المرتشية هم ممرضون و16 في المائة أطباء و10 في المائة حراسُ أمن خاص و8 في المائة أطر مساعدة.

مسؤولون يستفيدون من تسديد الدولة فواتير الأكل والهاتف والكهرباء
في فترة من فترات تسيير وزارة الصحة ظهر فراغ قاتل في التجهيزات الطبية في المستشفيات العمومية وتوقفت عمليات تشييد مراكز صحية جديدة. وكان هذا الشلل التام سببا في بروز مظاهر غير مألوفة: باتت النساء يلدن في الطرقات والمستشفيات، وانتشرت صور تـُظهـِر الخراب الذي لحق بمستشفيات متقادمة.
كل ذلك سببه، حسب مصادر مسؤولة من داخل الوزارة، اختلالات عميقة همّت ميزانيتها وطريقة الاشتغال فيها. وشملت هذه الاختلالات التجهيزات والصيانة.
وتحدثت مصادر «المساء»، في هذا السياق، واستنادا إلى بيانات محاسباتية نهائية، عن هدر قرابة 11 مليون درهم، وهو مبلغ يساوي مجموع الصفقات التي كانت مبرمجة برسم ميزانية الاستثمار لسنة 2011.
البداية بثلاث صفقات تم إدراجها ضمن الدراسات المخصصة لاختيار مكاتب التتبع والربط والتنسيق بين كل المتدخلين في سير أوراش مشروع لإعادة بناء المستشفيات الإقليمية لكل من الجديدة وخنيفرة وتمارة وسلا، وهي العملية التي تسمى تقنيا (OPC). هذا البرنامج ممول في جزء منه من طرف البنك الأوربي للاستثمار. لكن المثير في هذه الصفقة، حسب مصادر «المساء»، هو أن الأوراش المعنية تقدمت فيها الأشغال بنسبة 70 في المائة، ولكنْ تم تمرير صفقة الدراسات، المفترض أن تكون قبل انطلاق المشروع، لإحدى الشركات رغم أن الأشغال قاربت على الانتهاء.
وكشفت المصادر ذاتها لـ»المساء»، في المقابل، ثلاث صفقات أخرى، يظهر خلالها تعاملٌ تفضيليّ تتعامل به الوزارة مع شركات بعينها، حيث لا يتم إلزام الشركات بإتمام جميع مراحل الأشغال وتطبيق القانون عليها. وتتعلق هذه الصفقات باقتناء تجهيزات لفائدة وحدات ولادة في سبع جهات وأخرى لمستشفى محلي وصفقة ثالثة لتجهيز مختبرات المستشفيات.
تحدثت مصادر «المساء»، أيضا، عن تعمد توجيه طلبات العروض بشكل يسمح بظفر شركات معينة بها، ويتم ذلك، حسب المصادر نفسها، من خلال تحديد المواصفات التقنية للأجهزة التي يجب العمل بها، والتي تكون في ملكية الشركة المعتزم أن تظفر بالصفقة، إلى جانب التحكم في مبلغ الكلفة التقديرية بشكل يساعد شركات بعينها على الظفر بالصفقات الخاصة بوزارة الصحة، والمتعلقة بإقامة مشاريع كبرى، من بناء مستشفيات أو اقتناء تجهيزات، وهي صفقات تعود بأرباح تقدَّر بالملايير.
كما تشمل الاختلالات، وفق المصادر نفسها إجراءات الصيانة التي لا تتم بالشكل المطلوب ما يفسر تعطل أجهزة طبية مكلفة بعدة مراكز صحية مغربية، في حين أن عدم استعمال معدات باهضة الثمن يساهم لوحده في تلفها وتعطلها.
كأي وزارة أو إدارة عمومية، يتم تخصيص اعتمادات مالية لمصاريف الاستقبال والإقامة والنقل عبر الطرق للموظفين.. وتثير طريقة صرف هذه الاعتمادات في وزارة الصحة تساؤلات. وذكرت مصادر مسؤولة لـ»المساء» أنه تم التعاقد مع مطاعم وسط العاصمة الرباط للتزود بوجبات، لكن، في المقابل، أظهرت وثائق أن مسؤولين كانوا يطلبون وجبات من هذه المطاعم وهم موجودون في منازلهم، وفي أوقات متأخرة من الليل..
يحدث الأمر ذاته في تدبير أذونات النقل البري عبر الطرق (Vignette VTT) والتي يحتكرها مسؤولون في الوزارة، رغم أن المبلغ الخصص لكل قسم في الوزارة يبلغ تقريبا 20 مليون سنتيم.
تكشف وثائق حصلت عليها «المساء» معطيات أكثر إثارة، تخصّ استفادة مسؤولين كبار في وزارة الصحة من امتيازات كبيرة. بين هذه الوثائق فواتير استهلاك مسؤول كبير في الوزارة، في فيلته بالرباط، للكهرباء، إذ تظهر إحدى هذه الفواتير أن وزارة الصحة تؤدي من ميزانيتها واجب استهلاك هذا المسؤول من الكهرباء، حيث تم تسديد مبلغ و1140 درهما في شهر و2131 درهما في الشهر الذي تلاه.. ثم وصلت فاتورة الكهرباء لشهر ثالث مبلغ 1582 درهما، وهو ما يعني أن مجموع استهلاك الكهرباء في ثلاثة أشهر، والذي تم تسديده من أموال الوزارة، فاق 3 الاف درهم.
تتعلق وثائق أخرى بتسديد وزارة الصحة المبلغ الماليَّ المترتبَ عن استهلاك مسؤول كبير في وزارة الصحة لخدمات الهاتف والأنترنت والتلفزة الرقمية، حيث يستفيد هذا المسؤول من خدمات الاشتراك في الهاتف الثابت والمحمول ويتم تسديد اتصالاته في المغرب والخارج، فضلا على خدمات هاتفية أخرى، إلى جانب واجبات خدمات إضافية، مثل الاستفادة من باقة للقنوات، بينها باقة قنوات فرنسية. ووصل مجموع جميع هذه الخدمات في شهر واحد إلى 1938 درهما، تسددها وزارة الصحة من المال العام.
لكن المثير أكثر هو أن مسؤولين كبارا يستفيدون من هذه الخدمات، أي تسديد فواتير استهلاكهم الشخصي من الماء والكهرباء والهاتف والأنترنت والتلفزة الرقمية، ويتوصلون شهريا بتعويضات عن السكن واستهلاك الماء والكهرباء والهاتف ضمن تعويضات أخرى مختلفة، بينها تعويض عن اللباس بمبلغ شهريّ يقدر بـ9000 درهم وتعويض يسمى «التعويض العائلي المغربي»، والذي يصل مجموع مبالغه المسلمة شهريا إلى ما يقارب 5000 درهم.
توضح وثيقة تتوفر عليها «المساء» أن مسؤولا في الوزارة يتوصل شهريا بمبلغ 10 آلاف درهم كتعويض عن السكن وبـ9 آلاف درهم عن التدرج الإداري.. وفي مقابل تتكفل الوزارة بمصاريف استهلاكه من الماء والكهرباء والهاتف، يتم منحه، شهريا، مبلغا يفوق 5000 درهم مقابل استهلاك الماء والكهرباء وأكثر من 5000 درهم أخرى لاسهتلاك خدمات الهاتف..

فضح كواليس إعفاءات وتعيينات بطريقة غير قانونية للسيطرة على القطاع
في فترة وجيزة، ظهرت عدة ملفات مثيرة للجدل داخل قلعة الصحة، عصفت بمسؤولين كبار وشغلت الرأي العامّ 
لأيام. وصل بعض هذه الملفات إلى المجلس الأعلى للحسابات للنظر فيها، 
وظل بعضها الآخر حبيسَ جدران الوزارة، التي ظلت عصية على الاختراق.
«المساء» حصلت على نسخ من هذه الملفات التي تحوم حولها شبهات، وكلها، حسب مصادر مسؤولة التقتها الجريدة، مرتبطة بمسؤولين معيّنين. كيف ذلك؟ إليكم تفاصيل القصة من البداية.
بعد انتخابات، وفي سنة 2007، صعدت حكومة جديدة وصعد معها قائمون جدد على الشأن الصحي في المغرب. انتقل فريق كامل إلى تلك البناية الموجودة في قلب العاصمة الرباط، بينهم مسؤولون سابقون في وزارة الأسرة والتضامن وأعضاء، أو مقربون من أحزاب، أبرزها حزب الاستقلال.
تم استقدام مسؤول من وزارة الأسرة، حينما كان مديرا لديوان الوزيرة السابقة للأسرة، ياسمينة بادو، ليشغل منصف الكاتب العامّ لوزارة الصحة، التي أصبحت تسيّرها بادو.
مباشرة بعد تعيين الكاتب العامّ، بدأت تغييرات جذرية في وزارة الصحة. شملت هذه التغييرات تغيير مسؤولين وتعزيز سلطات وصلاحيات الكاتب العام، الذي أضحى المسيّرَ الفعلي للوزارة، بعد أن ألحق بها أقساما ومصالح بشكل مباشر.
كشف هذا الواقعَ الجديدَ تقريرٌ رُفع إلى وزير الصحة الجديد، الحسين الوردي، أياما بعد تعيينه. حصلت «المساء» على هذا التقرير، وفيه يتم تفسير سبب الصراع الذي دار بين الوردي والكاتب العام للوزارة وانتهى بتجريد الأخير من صلاحياته ودخول حزب الاستقلال على خط الصراع.
يبدأ هذا التقرير، الذي أُعدّ قبل اتخاذ الوردي قرار «تهميش» الكاتب العام للوزارة، بسنة 2008، تاريخ تعيين الأخير قادما من وزارة الأسرة. وتحدث التقرير عن خطة مدروسة للسيطرة على الوزارة.
كانت المرحلة الأولى، حسب التقرير ذاته، ما بين سنتي 2009 و2010، وخلالها تم اتخاذ إجراءات إدارية استهدفت تهميش عدة مسؤولين كبار في الإدارة المركزية، عن طريق الإقالة، كما حدث مع رئيس قسم المعلوميات والمناهج ورئيس قسم المُعدّات والتجهيزات البيوطبية ومدير الموارد البشرية ورئيس قسم إدارة شؤون الموظفين ورئيس مصلحة الموظفين الطبيين ورئيسة مصلحة الموظفين شبه الطبيين ورئيسة مصلحة التقديرات وتتبع المناصب المقيدة في الميزانية، ثم مع رئيس مصلحة الأعمال الجماعية، إضافة إلى الإعفاء الذي شمل رئيس قسم مجموعة السيارات والشؤون العامة ورئيس قسم التموين بالنيابة.
توزعت هذه التغييرات على الكتابة العامة ومديرية التجهيزات والصيانة ومديرية الموارد البشرية، وهي المصالح التي تعد بمثابة مفاتيح التحكم في وزارة الصحة والقطاع الصحي كله.
في المقابل، تم اتخاذ قرارات تقضي بتركيز الاعتمادات المالية المخصصة للمشاريع، والتي كانت موزعة على المديريات المركزية، في يد الإدارة المركزية، وهكذا أضحى التحكم في المشاريع والصفقات وميزانياتها يتم بشكل مركزيّ.
أما المرحلة الثانية من هذه الخطة، حسب التقرير ذاته، فكانت بين 2010 و2011، وخلالها تم تعيين فريق عمل جديد في ظرفِ أقلَّ من ثلاثة أشهر. شملت هذه التعيينات مسؤوليات حساسة داخل الوزارة، بينها قسم المنازعات والشؤون المهنية، التابع لمديرية التنظيم والمنازعات وقسم الأمراض غير المعدية في مديرية علم الأوبئة ومحاربة الأمراض ورئيس مصلحة الموظفين الإداريين في مديرية الموارد البشرية ورئيس مصلحة التقديرات وتتبع المناصب المقيدة في الميزانية في مديرية الموارد البشرية.
بموازاة مع هذه التغييرات التي تمت مركزيا، وقعت تغييرات في المصالح الإدارية التابعة لوزارة الصحة على الصعيد الوطني، وشمل ذلك تغيير المناديب الجهويين للصحة ومدراء المستشفيات.
فـُتح الباب أمام عدة توظيفات طالتها الانتقادات، بينها اكتشاف تعيين قرابة 120 شخصا استنادا على إجراءات غير قانونية وتوظيف أطر تابعة لحزب الاستقلال الذي أصبح مهيمنا على الوزارة، كما تم تعيين أشخاص في مناصب بطريقة تدعو إلى الانتباه.
تشهد على هذا الأمر وثائق حصلت عليها «المساء»، وتتجلى في ورقة توقيعات على الحضور ضمّت توقيع إطار جديد في الوزارة، مقدِّماً نفسه على أنه موظف في إحدى مصالح الوزارة، في حين أن وثيقة متعلقة بقرار تعيينه في الوزارة تؤكد أن التعيين جاء أياما بعد بدئه العمل باسم وزارة الصحة.
خلال هذه المرحلة، بدأ موظفون يستفيدون من عدة امتيازات، بينها السكن الوظيفيّ، كما تم إجراء صفقات كانت موضوع أسئلة شفوية نيابية، من أجل ترميم وإصلاح وحدات صحية، في الوقت الذي تم إصلاح منازل يستغلها موظفون في وزارة الصحة.
فهل كانت هناك، فعلا، خطة، للسيطرة على الوزارة، حسب التقرير المذكور؟ وما حقيقة الصفقات التي تم 
إجراؤها، والتي كانت سببا في تفجّر الصراع داخل الوزارة؟..

حوار مع السيدة أصواب، مسؤولة نقابية 
كيف تنظرون إلى ما أثير بشأن ملفات فساد في ميدان الصحة؟
< كنا قد وثـّقنا عدة خروقات في وزارة الصحة وأخرجاناها إلى الرأي العام في بيانات مسؤولة وموقعة، وتتعلق بملفات تعيينات مشبوهة خارج إطار القانون و بوجود صفقات غامضة وغير قانونية، إلى جانب قضايا استغلال للنفوذ واختلالات أخرى شابت توظيفات وتنقيلات الموظفين، وقبل تعيين الحكومة الحالية، أعلنا هذه الأمور واستنكرنا هذا الوضع وطالبنا بتصحيحه.
استمر الأمر بعد الإعلان عن محاربة الفساد والاستبداد، بجميع أشكاله، وهذا أمر يعني وزارة الصحة، لأنه كانت فيها من قبلُ تمظهرات فساد، ولكن في حدود معينة، ولم يكن الموظفون واعين بها بشكل جليّ ولم تكن هناك جرأة لفضحها.. إنّ سبب تفاقـُم الفساد واستشرائه في الوزارة هو تحكـّم مجموعة من الناس الذين تم تعيينهم كموظفين سامين مكان الأطر الحقيقية في الوزارة وسيطرتهم -بقبضة من حديد- على قطاع الصحة برمته، باعتباره قطاعا حيويا، كما أن هناك حزبا -وهو الاستقلال- تمكـّنَ من اختراق القطاع بشكل لم يسبق له مثيل ولم يصل إليه في فترة سابقة.
قطاع الصحة مهم ويمكن أن يكون أهمَّ من التعليم، لأنه يمكن للمواطن ألا يتعلم ولكنْ لا يمكنه ألا يذهب إلى المستشفى إذا مرض، ولكنْ أصبح القطاع محط استغلال انتخابيّ ووسيلة لتمرير الصفقات لشركات معينة والاستفادة من هذا الوضع وهذه المنافع، وهذا ما يشهده واقع الصفقات التي تستفيد منها شركات الأدوية أو الصيانة أو مختلف المقاولات، على اعتبار أن قطاع الصحة هو منتج ومهمّ بحكم حجم الأموال التي تتحرك فيه وما يتطلبه من مستلزمات، وقد شجع هذا الوضع على الانتفاع الشخصيّ وعلى فتح الباب أمام لوبيّ قوي في البلاد لكي يزداد المستفيدون منه انتفاعا، وهو ما يُسهّـل سيطرة حزب الاستقلال، الذي يملك الاقتصاد والسياسة أمر الاستفادة من وزارة الصحة.

ولكن ما قلت إنهم موظفون سامون تم تعيينهم للسيرة على قطاع الصحة.. هل كلهم كان لهم ارتباط فعليّ بحزب الاستقلال؟
< كلهم لديهم إما انتماء إلى الحزب أو ولاء تامّ له، وكمثال، كان الجميع يقولون إن الكاتب العام للوزارة ليس منتميا إلى حزب الاستقلال، وهذا كذب، لأنه كان يحضر معهم الاجتماعات الحزبية وكان ينفذ تعليماتهم، إلى درجة تعيين 300 شاب ينتمون إلى الشبيبة الاستقلالية، ضدا على القانون، وهذا الأمر فضحته الشبيبة نفسها، لأنه تم تعيين شباب من مناطق معينة ومحسوبين على تيارات معينة، بينما مناطق أخرى لم يستفد أعضاء شبيبتها.. وما يثبت هذه العلاقات هو أنه كان بين الأشخاص الذين آزروا شباط مؤخرا الكاتبُ العام للوزارة نفسه ووزيرة الصحة السابقة، كما صعد إلى اللجنة التنفيذية للحزب.

أصدرتم بلاغات تتهمون فيها مسؤولين في الصحة بالوقوف وراء ملفات فساد، لكنْ ما حجتكم؟ أي كيف كان يتم تدبير ما تسمونه ملفات فساد؟
< كان كل شيء ممركزا في الكتابة العامة أولا، وتم استقدام أشخاص من خارج القطاع وترقية أطر غير كفؤة من القطاع ولكنها "طيّعة"، كما تم تعيين مسؤولين مركزيين مقربين من قطاعات مختلفة وبعضهم قياديون في هيآت تابعة لحزب الاستقلال.
الكاتب العام هو الذي كان يحرّك كل شيء، وكان الآمرَ والناهي، واعتمد أسلوب ترهيب الموظفين والمسؤولين في الوزارة، وهذا ما صار مسؤولو الوزارة يعترفون به الآن.
هل لهذه الملفات التي تقولون إنه تحوم حولها شبهة الفساد، فعلا، تأثير سلبيّ على قطاع الصحة والمواطنين؟
< نعم، لها تاثير، لأن فيها إهدارا للمال العام، فالتقنيون عندما يحددون النقط السلبية في صفقة شراء دواء، مثلا، فهم لا يستندون على فراغ.. وعندما يتم استبدال جميع صفقات الأدوية بصفقة لقاح لم تكن المنظمة العالمية للصحة قد اعتمدته قبل ذلك ضمن لائحة اللقاحات الضرورية ويتم إفراغ الأدوية من المستشفيات فماذا يعني ذلك؟ يعني القتل العمدَ.. عندما لا يعثر مريض على دواء ضروريّ في المستشفى فهنا يكمن المشكل، بغضّ النظر عن الفضيحة الأخلاقية المحيطة بصفقات شراء منتجات مقرصنة بشكل يسيء إلى الدولة ويضرّ بالموظفين وبالقطاع.. والوزير الحالي يصعب عليه استئصال أصل الداء.
من الناحية التقنية، هل لموضوع غلاء الأدوية وسيطرة شركات على سوقه في المغرب، كما أثير قبل شهور، علاقة بما تقولون إنها ملفات فساد في وزارة الصحة؟
< هذا موضوع آخر.. ولا أعتقد أن هناك دخلا لوزارة الصحة فيه، وأظن أن هذا نقاش آخر..
بعد تعيين وزير جديد قام بتهميش مسؤولين في الوزارة، هل تعتقدون، فعلا، أنه سائر في اتجاه محاربة الفساد داخل قطاع الصحة؟
< بالنسبة إلينا، ورغم أن الوزير ابن القطاع ونشهد له بالنزاهة والكفاءة، فقد بدأ بشكل جيد ولكنه متوجه حاليا، مع كامل الأسف، نحو ملفات أظن أنه لم يكن يجدر به إثارتها، إذ كان يمكن أن يستمر في مسلسل "التنقية"، ولكنْ جرّته أطراف أخرى إلى أمور لن تجعل العاملين في القطاع مرتاحين ومستعدين للعمل معه. ما نتأسف له، كنقابيين، هو إثارة الوزير الجديد ملفات لن تجرّ إلا البلبلة على القطاع وستساهم في تضييع الجهود لتنقية الميدان.
بالموازاة مع هذا فإن ملفات الفساد، التي تم إثباتها ونتحمل مسؤوليتنا فيها وكنا نضمّنها في بلاغات، كنا ننتظر أن يستدعيها الوزير لمناقشتها وفتح تحقيق فيها، إذ لم يكن يتصل بنا وينتظر إلى حين إثارة الموضوع في الجرائد، ثم يعلن فتح تحقيق لا تظهر نتائجه، وهو أمر ينطبق على عدة ملفات تم التأخر في البتّ فيها. إذن، هناك تأخر في البت في ملفات فساد، والملفات التي تتعلق بمهنيين في القطاع يتم التسرع في اتخاذ إجراءات بخصوصها، وهذه مفارقة غريبة لا تدعو إلى الارتياح، وهو ما يكشف وجود لوبيّ يحاول أن يجر الوزير الحالي نحو أمور أخرى ستنعكس عليه سلبا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نشر تعليق يلزم فقط صاحبه فيما يخص واجب احترام القانون وقواعد المحتوى الخاصة ب "بلوغر"