10/07/2012

أدوار الصفقات العمومية بين الإطارين النظري والتطبيقي


تتشكل الصفقات العمومية من شبكة من المفاهيم والمبادئ والمساطر المركبة داخل منظومة تشريعية وتنظيمية يتعدد فيها الفاعلون والمتدخلون. ومن أبرز خصائصها، بالإضافة إلى حدة الشكليات، سرعة تطور نظامها وتأثره بالمتغيرات والمستجدات. كما تعد الصفقات وسيلة لصرف المال العام، استجابة لحاجيات مصالح الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية، و تنفيذا للسياسات والبرامج والمشاريع العمومية المتعلقة بمختلف القطاعات، وطنيا ومحليا؛ ولها بالتالي تأثير واضح على حياة المواطن وسير المقاولة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية

على المستوى الاقتصادي، يؤثر ميدان الصفقات العمومية بشكل كبير في دعم الطلب الداخلي والنمو الاقتصادي، ويزخر بفرص حقيقية للمقاولات لرفع أرقام مبيعاتها وتطوير أعمالها، سواء تعلق نشاطها بقطاع الأشغال أو الخدمات أو توريدات السلع والبضائع. بلغة الأرقام، يمثل هذا الميدان، بالنسبة إلى العديد من الدول، ما بين 15 و20 في المائة من الناتج الداخلي الخام. وحسب آخر الإحصاءات، تطورت الصفقات العمومية المغربية لتصل قيمتها إلى 160 مليار درهم، أي ما يعادل 24 في المائة من الناتج الداخلي الخام، مسجلة نموا سنويا كبيرا، قـُدر متوسطه بـ30 في المائة خلال السنوات الأخيرة. وهذا جهد استثماري عمومي ضخم تنتعش من خلاله قطاعات اقتصادية كالهندسة والدراسات، والبناء والأشغال العمومية، اللذين تبلغ أرقام أعمالهما القائمة على الصفقات العمومية أكثر من 70 في المائة. وبالموازاة مع تنميتها للاقتصاد وإنعاشها للمقاولة، تساهم الصفقات في ضمان الموارد الضريبية للدولة، من خلال إلزام المقاولات المتنافسة بتأكيد صحة التزاماتها الضريبية كشرط لمشاركتها في الصفقات العمومية
وعلى المستوى الاجتماعي، تساهم الصفقات العمومية في محاربة البطالة وتحسين ولوج الطبقة العاملة إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية. فاشتغال المقاولة في بيئة اقتصادية مدعومة بالاستثمارات العمومية له تأثير إيجابي على الشغل. وإذا ما استحضرنا، مثلا، مساهمة قطاع البناء والأشغال العمومية في تشغيل اليد العاملة بالمغرب، يتبين جانب من الدور الاجتماعي الذي تؤديه الصفقات العمومية من خلال مناصب الشغل التي توفرها، مساهمة بذلك في القضاء على البطالة. كما يحسب للصفقات، على هذا المستوى، دورها في إنعاش ولوج الطبقة العاملة إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، كالتغطية الصحية والتعويضات العائلية والمعاشات، وذلك من خلال إلزام المقاولات المتنافسة بتأكيد صحة التزاماتها تجاه الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إن هي أرادت ولوج الصفقات العمومية
وهنا يفتح قوس لتأكيد أن الربط بين استفادة المقاولة من الصفقات العمومية وبين صحة التزاماتها الضريبية والاجتماعية شرط موضوعي يستدعي تفعيله مزيدا من الجهود، حيث إن التهرب الضريبي أو عدم التصريح بالأجراء يخدش المنافسة ويفرغها من جوهرها؛ فمن السخرية أن تصبح المقاولات الملتزمة بالتصريح الضريبي والتصريح بالأجراء ممولا غير مباشر لمنافسيها من الشركات التي تتهرب من إدارة الضرائب ومن صندوق الضمان الاجتماعي؛ وبالتالي، فمن الإنصاف وضع جميع المقاولات على قدم المساواة أمام الأعباء العامة قبل تمتيعهم بالمساواة على مستوى ولوج ونيل الصفقات العمومية. ولا ندري، في هذا الشأن، إن كان مجلس المنافسة قد تنبه إلى هذا الأمر وتناوله في الدراسة التي أجريت لحسابه 

مؤخرا حول تنافسية ميدان الصفقات العمومية
مساحة إعلانية : صدر كتاب جديد باللغة الفرنسية تحت عنوان "guide des marchés publics à l'intention des entreprises"  يتناول فيه المؤلف كيفيات و شروط منافسة المقاولات على الصفقات العمومية المغربية. أنقر هنا لمزيد من التفاصيل بالعربية أو اقرءها هنا باللغة الفرنسية
بالمقابل، ذهبت ممارسات دولية إلى أبعد من هذه الوظائف الكلاسيكية، فاستخدمت الصفقات العمومية كوسيلة من أجل النهوض بحماية البيئة ومحاربة الإقصاء والفقر والتهميش؛ فإذا توفرت الشروط القانونية والإرادة والكفاءة اللازمة، يمكن للجانب التعاقدي في الصفقات العمومية أن يمكن الدولة من إلزام الشركاء الاقتصاديين بتقديم خدمات وأشغال وتوريدات تحترم البيئة، وهو ما يطلق عليه اسم المشتريات العمومية المستدامة أو الخضراء. كما يمكن، في سياق رفع التحديات التي تواجه الدولة على مستوى التزاماتها المتعلقة ببعض الفئات من المواطنين، أن تقوم الإدارات والهيئات العمومية بتشجيع المقاولات المتعهدة على توظيف الفئات الأقل حظا في ولوج سوق الشغل كذوي الاحتياجات الخاصة أو بتشجيع التجارة المنصفة التي من شأنها أن تحارب الفقر وتحقق، فعلا، الإنصاف لبعض الصناع والحرفيين وتخلق لهم فرصا جديدة، وتخلصهم بالتالي من الفقر والتهميش
أما على المستوى السياسي، فبالنظر إلى الصفقات العمومية كوسيلة لإعادة توزيع الثروة ولتنفيذ السياسات العمومية، من جهة، وتعلق مخرجاتها من الخدمات العمومية ومدخلاتها من الضرائب بالمواطن والمقاولة، من جهة ثانية، يمكن القول إن النظر في النتائج التي يحققها هذا الميدان للمواطن يدخل ضمنيا في عملية تقييمه السياسي لأداء الحكومات والمؤسسات الدستورية؛ وجوانب هذه العلاقة التي تربط المواطن بالصفقات على مستوى واجبه في تمويلها وحقه في الاستفادة منها، هي التي تؤسس لشرعية المواطن الرقيب على الشأن العام وتمكنه من التأثير في السياسة العمومية وفي الفاعل السياسي عبر مختلف الآليات الديمقراطية، كالانتخابات والاحتجاج وإبداء الرأي، أو عبر الثورات في حال انسداد آفاق العمل السياسي الحر والنزيه، كما حدث في بعض البلدان العربية. بصيغة أخرى، تعتبر الصفقات العمومية نقطة تقاطع حساسة بين ما هو مالي واقتصادي واجتماعي وسياسي؛ والاختلالات التي تطال هذه المجالات تؤثر بشكل مباشر على جوانب حيوية من المعيش اليومي للمواطن: فغياب العدالة الضريبية يستنزف دور المواطن كممول للصفقات، وضعف وقعها الاقتصادي والاجتماعي يبخس حقه في الاستفادة من الاستثمارات العمومية بشكل عادل؛ كما أن عدم ملاءمة النتائج لانتظارات المواطن يتجاهل دوره كفاعل في تقييم السياسات العمومية؛ وأخيرا، فإن تزوير الانتخابات وقمع الحريات يحرف إرادة المواطن كناخب وينتهك العقد السياسي الذي بموجبه يفوض تدبير الشأن العام إلى السلطات العمومية. بهذا المنطق، يمكن فهم تطور الأوضاع في بلدان الربيع العربي وما اتخذته الحكومات من تدابير إصلاحية. هذا، وإن لهذه المقاربة، التي تنطلق من جوانب علاقة المواطن بالصفقات العمومية، أهميتها على مستويين اثنين: المستوى الأول يتعلق بتقدير حيز الاختلالات التي يعاني منها الميدان والذي لا يمكن اختزاله في حدود أنشطة تفويت وتنفيذ الصفقات العمومية، بل له امتدادات متعلقة بالسياسة الضريبية والمالية العمومية، على سبيل المثال
أما المستوى الثاني فيتعلق بوضع معالم النموذج الإصلاحي البديل الشامل والمندمج لمنظومة الصفقات العمومية الذي يجمع بين الإصلاح الضريبي وإصلاح المالية العمومية ودمقرطة الحياة السياسة وإشراك المواطن في تسيير الشأن العام والرقابة عليه، فضلا عن توحيد وتطوير الإطار القانوني المنظم للطلبات العمومية، بالإضافة إلى ما يتفرع عن هذه الميادين من مجالات إصلاح داعمة، كالقضاء والولوج إلى المعلومات والتكوين والوظيفة العمومية وشبه العمومية ومنظومة الأجور
من جانب آخر، لا ينبغي لمتناول موضوع الصفقات العمومية أن يكتفي بالإطار النظري الذي يخص أدوارها الاقتصادية والاجتماعية، بل عليه الاستناد إلى معطيات ميدانية، حتى يقيـِّم النتائج ويحدد الفوارق ويقترح ما يُمَكن من سد الثغرات. وبالعودة إلى المغرب، تجدر الإشارة إلى أن التقييم العلمي لأدوار الصفقات العمومية ليس عملا يسيرا، والسبب راجع بالأساس إلى عدم نشر أرقام وإحصاءات رسمية دورية ومحينة بشكل منتظم حسب معايير مختلفة: عدد الصفقات، موضوعاتها، أماكن تنفيذها، مبالغها، نائلوها، مصادر تمويلها، إلى غير ذلك من المعطيات المفيد وضعها رهن إشارة الفاعل الاقتصادي والمسير العمومي والباحث الأكاديمي، وكذلك الإعلامي والمواطن كرقيب خارجي على صرف الأموال العمومية. ومع ذلك، طفت في السنوات الأخيرة بعض التقارير الصادرة عن بعض المؤسسات الرسمية التي استطاعت أن تمد المتتبعين بصورة مدعومة بالأرقام عن جوانب مهمة من الصفقات العمومية
 في هذا الإطار، وعلى الرغم من إشادة كل من البنك الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بجهود إصلاح الحكومات السابقة لمنظومة الصفقات في تقريريهما الصادرين تباعا سنتي 2000 و2008، فإنه، واستنادا إلى خلاصات مجموعة من التقارير الوطنية الصادرة بعد ذلك عن مؤسسات رسمية ومدنية، يمكن الخروج باستنتاج مفاده أن هذه الإصلاحات لم تتمكن، على أرض الواقع، من تخليص ميدان حيوي كالصفقات العمومية من الممارسات السلبية، كالرشوة والزبونية أو تمكينه من المساهمة الفعالة في تنمية الاقتصاد وإنعاش المقاولات الوطنية، خصوصا منها الصغرى والمتوسطة
هشام التزكيني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نشر تعليق يلزم فقط صاحبه فيما يخص واجب احترام القانون وقواعد المحتوى الخاصة ب "بلوغر"